صَيْدُ السَّمَكِ
بقلم: محمد سعيد المولوي
رسم: ريم العسكري
جلستْ عائلةُ عدنانَ إلى مائدةِ الطعامِ، ودخلتْ الأُمُّ تَحْمِلُ طبقًا طويلاً مُغَطًى بورقِ القَصْدِيرِ تَفُوحُ منه رائحةٌ نَفَّاذةٌ تفتحُ الشَّهِيَّةَ، فوضعتِ الأُمُّ الطَّبقَ على المائدةِ والعيونُ تُراقِبُهَا ونزعتْ ورقَ القَصْدِيرِ فَإذا بسمكةٍ طويلةٍ قد وُضعتْ في الطَّبقِ يتصاعدُ منها البخارُ فيزيدُ في الشَّهِيَّةِ، وبدأتِ الأُمُّ تقطعُ من السمكةِ قطعًا وتُوزِّعها على الصحونِ، وامتدتِ الأيادِي إلى الصحونِ وعادتْ محمَّلةً إلى الأفواهِ، وتتابعتْ كلماتُ الثناءِ على الأُمِّ وحُسْنِ طَبْخِها، وعلى السَّمَكَةِ وطِيْبِ طَعْمِهَا.
وبينما الجميعُ مُنْهَمِكُون في الأكلِ قالَ الابنُ بديعُ: أتعلمُ يا والدِي أنَّ هذَا الطَّعامَ لَذِيذٌ، وكنتُ منذُ زمنٍ بعيدٍ أتمنى أنْ أزاولَ مهنةَ صيدِ السمكِ، وأنْ أتعلمَ طُرُقَها، فقالَ الأبُ على الرَّحْبِ والسَّعَةِ يا بُنَيَّ وموعدُنَا يومُ الجمعةِ بعدَ الصلاةِ.
بعدَ صلاةِ الجمعةِ قالَ الأبُ: هَيَّا بِنَا إلى غرفةِ المُسْتَوْدَعِ فقدْ وَضَعْتُ فيها عِدَّةَ الصَّيدِ وسَأُسَلِّمُ كُلَّ وَاحِدٍ منكُمْ آلتَهُ ثم ننطلقُ إلى البحرِ. تناولَ الأبُ واحدةً من العِصِيِّ المصنوعةِ من البلاستيك المُقَوَّى وراحَ يُدْخِلُ رُؤوسَ بعضِها في بعضٍ ويَفْتِلُهَا فإذا هي تشتبكُ وتطولُ بوساطةِ لوالبَ حتى أصبحت عصا طويلةً متينةً، وقد ثبَّت في أسفل العصا بكرةً ملفوفٌ عليها حبلٌ متينٌ يصل إلى نهايةِ العصا ويمرُّ من خلال حلقةٍ حديديةٍ مثبتةٍ في رأسِ العصا، وقد ربطَ إلى الحبلِ كُرَةً خشبيةً ملونةً، وفي آخرِ الحبلِ ربطتْ سنارةُ من الفولاذِ تشبهُ دبوسًا معقوفًا. ثم قالَ الأبُ: هذه السنارةُ هي الأَشْهَرُ بين الأفرادِ الذين يريدون صيدَ السَّمكِ وأن يتمتعوا بذلك. نظر الأولادُ إلى الأرضِ فرأوا أقفاصًا من الحديدِ المشبَّكِ تشبهُ البراميلَ لها فتحةٌ تشبهُ القُمعَ كبيرةٌ إلى الخارج وضيقةٌ من الطرف الآخر. فقالَ الأبُ: لِيَحْمِلْ كلُ واحدٍ منكم عصا السِّنَّارةِ ولْيَتَعَاوَنْ كُلُّ اثنينِ منكم على حَمْلِ قفصٍ، وهيَّا بنا نَمْضِ إلى البحرِ وهناك سَأُعَلِمَكُمْ كَيْفيَّةِ الصَّيْدِ.
وصلَ الجميعُ إلى شاطئِ البحرِ، واختارَ الأبُ رأسًا من اليابسةِ داخلاً في البحرِ فذهبَ إلى آخرهِ ثم قالَ لأولادهِ: إنَّ للصيدِ طُرُقًا عديدةٍ وأولاها وأسهلُها الصيدُ بالسنارةِ، وهذا ما سأصنعهُ الآن أمامكم وتصنعونَهُ بعدي، فإنَّ الصيادَ يضعُ الطُّعْمَ على السنارةِ الفولاذيةِ وقد يكونُ دودةً، أو قطعةً من السمكِ، أو اللحمِ،أو العجينِ، ومهمةُ الطُّعْمِ استدراجُ السمكِ إلى السنارةِ، حيثُ يحضرُ ليأكلَ الطُّعْمَ فإذا فعلَ عَلِقَ بالسنارةِ، فتهتزُ الكرةُ التي تطفو على سطحِ الماءِ.
وتابعَ الأبُ قائلاً: سترَونَ الآنَ كيفَ يأتي السمكُ ليأكلَ الطُّعْمَ وما كادَ يُتِمُّ كلامَهُ حتى اهتزتْ الكرةُ الخشبيةُ، وقالَ الأبُ: انظرُوا، إن سمكةً قد عَلِقتْ بالسنارةِ وانعدمتْ مُقَاومَتُها، وهكذا ما بين إرخاءٍ وشَدٍّ أصبحتْ السمكةُ قربَ الشاطئِ، فرفعَ السمكةَ وحرَّرَ فَمَهَا من السنارةَ وألقَى بِهَا في سَبَتِ الصَّيْدِ، فصَفَّقَ الأولادُ مُبْتَهِجِين.
وقالَ الأبُ: سأريكمْ طريقةً أخرى في الصيدِ، فأمسكَ بأحدِ القفصين وربطهُ بحبلٍ وأدخلَ من فوَّهَتِهِ بعضَ قِطَعِ السمكِ، ثم ألقى به في الماءِ، ثم فعلَ بالقفصِ الآخرِ الفعلَ نفسَهُ، وقالَ: إنَّ السمكَ سيدخلُ في القفصِ لأكلِ الطُّعْمِ فَيَعْلِقُ في القفصِ، لأنَّ فَمَ القفصِ القُمْعِيَّ لنْ يسمحَ له بالخروجِ.
وتابعَ الأبُ كلامَهُ قائلاً: هناك طريقةٌ ثالثةٌ للصيدِ وهي أشْهَرُ الطرقِ وأكثرُها شيوعًا وربحًا وهي الصيدُ بالشباكِ، فتمسكُ الشباكُ السمكَ وتستخرجُ بما حملتْ من الأسماكِ التي تبلغُ مئاتِ الكيلو جرامات.
بقي أنْ أقولَ لكم إنَّ السمكَ يؤكلُ سواء أصِدْنَاهُ، أَوْ وجدناهُ ميتًا على وجهِ الماءِ، أَوْ على أطرافِ الشطآنِِ، وذلكَ لقولِ الرسولِ، عليهِ الصلاةُ والسلامُ: «أحِلَّ لَكُمْ دَمَانِ ومَيْتَتَانِ، أمَّا الدَّمَانِ فَهُمَا الكبدُ والطُّحَالُ، وأمَّا المَيْتَتَانِ فَهُمَا السَّمَكُ والْجَرَادُ». والآن هَيَّا يا شبابُ ولْيُهَيِّئْ كُلٌّ مِنكمْ سِنَارَتَهُ وأرُونِي بَرَاعَتَكُم.
سارعَ الأولادُ إلى وَضْعِ قِطَعِ السمكِ على السِّنَّاراتِ وقَذْفِهِا في الماءِ، ولَمْ يَمْضِ سوى وقتٍ قصيرٍ حين غمزتْ سنارةُ محمودٍ، وقالَ يا أبتِ ماذا أصنعُ، وتقدَّمَ الأبُ فساعدَ ولدَهُ على إتمامِ صيدِ السمكةِ واستخراجِها، وبينما هما كذلكَ صاحَ الابنُ سالمٌ: يا أبتِ لقد اصطدتُ سمكةً كبيرةً وَحْدِي. فقالَ الأبُ: أحسنتَ.
وبعدَ فترةٍ منَ الصيدِ كانَ قد اجتمعتْ كميةٌ كبيرةٌ من السمكِ في السَّبَتِ فقالَ الأبُ: فُكُّوا قَصَبَاتِكُم وتعالَوا نسحبْ الأقفاصَ من الماءِ.. وفي المساءِ جلسَ الجميعُ إلى مائدةِ العشاءِ وكانتْ أنواعُ السمكِ المختلفةِ المقلي منها والمشوي تملأُ أرجاءَ المائدةِ برائحتِها النَّفَّاذةِ، وصاحَ سالمٌ، وهو يشيرُ إلى سمكةٍ كبيرةٍ: أنا اصطدتُ هذه السمكةَ، وأريدُ أنْ آكُلَها وَحْدِي، وامتدتْ أيْدي الإخوةِ سريعًا فمزقتْ السمكةَ إلى صحونِهم وهم يضحكون، فقالَ الأبُ: يا سالمٌ هذا جزاءُ الأنانيةِ.. ولقاؤنا إنْ شاءَ اللهُ يومُ الجمعةِ المقبلِ.